تطور التجربة الليبية في ملف العدالة الانتقالية

كانت التجربة الليبية مبشرة في بداية التحول الذي نتج عن انتفاضة عام 2011، حيث بدأت تجربة العدالة الانتقالية في ليبيا بإصدار “المجلس الوطني الانتقالي المؤقت” القانون رقم 17 لسنة 2012 الذي تضمن آليات المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، من خلال نصه على إنشاء “هيئة تقصي الحقائق والمصالحة” وهي الهيئة التي جاءت قضائية خالصة، ولم تمثل المجتمع الليبي بمختلف مكوناته، ولم تتضمن تمثيلًا لضحايا الانتهاكات. كما تمت معالجة بعض الأمور القضائية بتشريعات خاصة خارج سياق هذا القانون، مثال ذلك قانون العفو رقم 35 لسنة 2011 للتعامل مع إطلاق السجناء بشكل عشوائي في فترة الانتفاضة. وحاول المجلس الانتقالي تعديل آلياته لتحقيق العدالة الانتقالية من خلال القانون 38 لسنة 2012، لكنه جاء ليعزز الإفلات من العقوبة، بعدم تجريم أي عمليات عسكرية أو أمنية قام بها “الثوار” بهدف إنجاح “الثورة” وحمايتها.

وبعد انتخاب “المؤتمر الوطني العام” في يوليو 2012 استمر الوضع التشريعي على النهج ذاته في التعامل مع ملف العدالة الانتقالية، وكانت البداية مع القانون 29 لسنة 2013 الذي أكد أن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية تتعلق “بالأعمال التي أدت إلى شرخ في النسيج الاجتماعي، وأعمال كانت ضرورية لتحصين “الثورة” وشابتها بعض السلوكيات غير الملتزمة بمبادئها”، وضم إلى العدالة الانتقالية تلك الجرائم والانتهاكات التي شهدتها الفترة التالية على فبراير 2011، وهو ما جرد القانون من قوته الإلزامية العقابية.

واستمر النهج ذاته في طريقة عمل السلطة التشريعية التي أصدرت قوانين أفرغت عملية المصالحة الوطنية من مضمونها، مثل القانون 13 لسنة 2013 الخاص بالعزل السياسي والإداري لعدد كبير ممن شغلوا مناصب سياسية في نظام “القذافي”، دون أن يتضمن معايير موضوعية لتطبيق العدالة الانتقالية، وأحدث جدلًا مجتمعيًّا أضاف تحديًا جديدًا للمصالحة الوطنية، وهذا ما حدث مع تطبيق القانون 59 لسنة 2013 الصادر عن المجلس الوطني العام بشأن مذبحة بو سليم، والقانون رقم 31 لسنة 2013 الذي قرر بعض الأحكام الخاصة بهذه المذبحة، واعتبرها جريمة ضد الإنسانية.

وحين تم انتخاب مجلس النواب الليبي في يونيو 2014 ، جاءت تشريعاته في ظل انقسام سياسي ظهر في القانون رقم 6 لسنة 2015 الذي نص على عفو عن جميع الليبيين الذين ارتكبوا جرائم معينة خلال الفترة من 15 فبراير 2011 حتى صدور هذا القانون، معلنًا انقضاء الدعاوى الجنائية بشأنها، وسقوط العقوبات المحكوم بها والآثار المترتبة عليها، بشرط تقديم تعهد كتابي بالتوبة، ورد المال محل الجريمة، والتصالح مع المجني عليه، وتسليم الأسلحة وأدوات الجريمة، وإعادة الشيء إلى أصله في حالة الاعتداء على العقارات والممتلكات المنقولة، وتم استثناء عدد من الجرائم التي تتعلق بالإرهاب وتجارة المواد المخدرة والاغتصاب والقتل على الهوية والاختطاف والتعذيب وجرائم الحدود والفساد.

وحتى حين حاولت الهيئة التأسيسية لوضع الدستور الليبي التعامل مع قضية العدالة الانتقالية، جاءت المواد في مسودة الدستور عامة وغير مرتبطة بحقبة زمنية، وذهبت للتعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان ورد الحقوق العقارية والمنقولة، لكنها لم تلزم السلطة التشريعية بإصدار قانون للعدالة الانتقالية، وهو الوضع الذي لم يتغير مع “اتفاق الصخيرات” الموقع في 17 ديسمبر 2015 ، حيث قلص هذا الاتفاق من مفهوم العدالة الانتقالية وجبر الضرر ليصبح مجرد محاولة للوصول الى تسوية، ولم ينصّ على التعويض أو التقصي لمعرفة الحقيقة، وأكد على أهمية تطبيق القانون 29 لسنة 2013 دون معالجة عيوبه، واستحدث هيئات لم ينص على اختصاصات واضحة لها ولم يتم تفعيلها، فظهرت هيئة لكشف الحقائق، وهيئة لحقوق الإنسان، وهيئة لرصد الانتهاكات، وهو ما تسبب في إرباك وتداخل في اختصاصات كافة الهيئات المسئولة عن العدالة الانتقالية، خاصة أن الاتفاق خلا من توضيح مراحل وخطوات تطبيق العدالة الانتقالية.

وتثبت التطورات السابقة لمفهوم تطبيقات العدالة الانتقالية في ليبيا أن هذا المفهوم يواجه الكثير من التحديات والتعثر، خاصة مع حالة الانقسام والاقتتال الذي ظهرت آثاره في السنوات السابقة. ويبدو أن مفاوضات القاهرة والمغرب في أكتوبر 2020، والتي أسفرت عن توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار، قبل توجه الأطراف الليبية إلى جنيف، تعود مرة أخرى لتؤكد على أهمية وضع أسس لتطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا، لكن بأدوات وأسس جديدة.

إشكاليات وتداعيات تطبيق العدالة الانتقالية في ليبيا

يؤكد التحليل السابق أن مفهوم وتطبيقات العدالة الانتقالية في ليبيا تواجه عددًا من الإشكاليات التي تحول دون فاعلية التشريعات التي صدرت لتطبيقه، ولعل من أهم تلك الإشكاليات:

  • التركيز على إرث “القذافي”: وهو ما جعل السمة الأساسية للعدالة الانتقالية في ليبيا السعي للانتقام من مرحلة تاريخية ورموزها، والتأكيد على أن إرث هذه المرحلة هو السبب في عدم تطبيق العدالة الانتقالية، وهو السبب أيضًا في الانقسام المجتمعي وعدم التنمية وحالة الاستقطاب، وهو ما أفقد مقترحات العدالة الانتقالية طابع الشمول.
  • الاقتصار على الجوانب التشريعية: كافة التحركات ومشروعات العدالة الانتقالية في ليبيا لا تزال تقتصر على الجانب التشريعي، ولم تنتقل إلى الجوانب التنفيذية على أرض الواقع، وفشلت في تفعيل هيئات إنفاذ القانون، فتعاظمت ثقافة الإفلات من العقاب. ومع كثافة التوجهات القانونية والأطر التشريعية والدستورية التي تم وضعها للعدالة الانتقالية في ليبيا، لم يحدث أي تعديل في الإجراءات الجنائية، ولم يتم صياغة آليات جديدة لإنفاذ القانون؛ بل تضمنت التشريعات تناقضًا بين التشريعات، وفي اختصاص الهيئات المنوط بها تطبيق العدالة الانتقالية.
  • الانقسامات السياسية: التي تطورت لتتضمن أبعادًا أمنية وتسليحية وتحالفات دولية، وبات الوضع يقترب من التقسيم الفعلي للدولة الليبية، وهو ما صاحبته وقائع تحتاج لتحقيق وتطبيق عدالة انتقالية، فالخلافات باتت بين مدن أو أحياء داخل مدن، وتحتاج العدالة الانتقالية إلى سياق سياسي ومؤسسي يُحقق مقاصدها، والحالة الليبية لا تزال تفتقد هذا السياق.
  • اختزال مفهوم العدالة الانتقالية ليرادف التصالح: يقترب تناول الهيئات الليبية لمفهوم العدالة الانتقالية وكأنها ترادف العدالة التصالحية، والأخير مفهوم يتضمن في ليبيا إفلات كبار المسئولين من تحمل المسئولية الجنائية والتاريخية، ويجب التأكيد على أن التصالح أحد مقاصد العدالة الانتقالية، إلى جانب أدوات وآليات أخرى تحقق أهدافًا متنوعة.
  • التأثير القبلي على العدالة الانتقالية في ليبيا: تؤثر صور التمييز الإثني والسياسي والجهوي والقبلي والأيديولوجي في ليبيا على مفهوم وأسس وآليات تطبيق العدالة الانتقالية في هذا المجتمع، وهو ما يجعل ليبيا لا تزال تواجه تحديات إعادة البناء، ولن تقوى أية تسويات سياسية على الاستمرار دون تطبيقات العدالة الانتقالية بمعناها المادي والمعنوي.

نحو صياغة بديل للعدالة الانتقالية في ليبيا

حتى يحقق مشروع العدالة الانتقالية في ليبيا أهدافه لا بد من توافر عدد من الشروط أهمها:

  • إقامة مشروع مجتمعي شامل يتضمن الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والثقافية والتنموية، تشارك فيه كافة أطياف الشعب الليبي، وأن يقوم على أسس اجتماعية مقبولة ومرتبطة بالمجتمع الليبي.
  • الالتزام الدستوري والتشريعي بما صدر من تشريعات تؤسس لعدالة انتقالية، وتشكيل لجنة تقصي حقائق محايدة ومستقلة تمثل كافة الأطياف، والابتعاد عن سياسات الإقصاء والعزل والتعامل مع قضايا التهميش.
  • تكوين لجنة نزاهة وطنية مستقلة وشفافة تتناول قضايا الفساد السياسي والإداري وانتهاكات حقوق الإنسان. والتحقيق بشفافية في تناول حقيقة ما جرى حتى يتحمل كل طرف جزاء ما اقترفه.
  • تشكيل لجان تقصي حقائق، ومحاكمات شفافة وعادلة للجناة، وتعويض الضحايا وأسرهم، والانخراط في عملية إصلاح سياسي عميقة تمنع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان، وبناء مؤسسات إنفاذ القانون على أسس قوية لفرض سيادة القانون، وضمان إرادة سياسية تعمل على تنفيذ مشروع المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.
  • إعادة هيكلة القوات المسلحة الليبية لتكون من كل أبناء ليبيا، وإعادة صياغة أولويات عقيدتها العسكرية، ودمج المجموعات المسلحة بعد مراجعة موقفها وأيديولوجيتها.
  • يجب أن يقود الليبيون تلك العدالة الانتقالية، وأن يقتصر دور الأطراف الإقليمية والدولية على تقديم المشورة فحسب.

هذا هو تطور وواقع العدالة الانتقالية في ليبيا التي تعاني من بعض الإشكاليات في تطبيق هذا المفهوم، وهو ما يقتضي التعامل مع بعض الملفات، والاستفادة من الخبرات الدولية في كيفية تحقيق العدالة الانتقالية، وهو ما يستوجب التعامل مع التحديات التي يفرزها المجتمع الليبي. ويبدو أن توقيع الأطراف اللبيبة على وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر 2020، سيعيد فتح ملف العدالة الانتقالية في هذا المجتمع الذي يعاني كثيرا من آثار غياب تطبيق حقيقي لهذه العدالة.

(بتصرف عن https://www.ecsstudies.com/12279/ )